/ الفَائِدَةُ : (96) /
16/11/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / رأي بعض اصحاب المدارس البشريَّة في التَّوسُّل / نقل صاحب تفسير الميزان قاعدة معرفيَّة ، ذكرها أَهل المعنىٰ والمعرفة ، وهي : « أَنَّه لا بُدَّ للنَّفس النَّازلة لتحصيل معرفة الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة من التَّوسُّل بالوسائط والآيات الإِلٰهيَّة ، وهي على نمطين : فتارة تُلحظ الوسائط ـ كنزول جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـ ، وأُخرىٰ لا تُلحظ » . ويحصل في النَّمط الثَّاني : تجلِّي الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة للمخلوق مِنْ خلال الآيات الإِلٰهيَّة بدرجةٍ أَظهر وأَجلىٰ . لكنَّ : حصلت له غفلة ، بل غفلات عن هذه القاعدة في موارد مُتعدِّدة مِنْ تفسيره ، تبعاً لجملة مِنَ الفلاسفة والعرفاء والصُّوفيَّة وأَهل المعرفة مِنَ الإِماميَّة ؛ حيث قالوا : إِنَّ لكلِّ مخلوقٍ بلحاظ إِرتباطه بالسَّاحة الإِلٰهيَّة المُقَدَّسة وِجْهَتين : إِحداهما : وِجْهَة تسلسل الوسائط والأَسباب. وأَطلقوا عليها : «الجهة الَّتي تلي الخلق». الأُخرىٰ : وِجْهَة مِنْ دون وسائط وأَسباب. وأَطلقوا عليها : «الجهة الَّتي تلي الرَّبّ». وفُسِّرَ بيان قوله تقدَّس ذكره : [ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ] (1)بالوِجْهَةِ الأُولىٰ . وبيان قوله جلَّ قدسه : [ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ] (2)بالوِجْهَةِ الثانية. وغير خفيٍّ لِـمَن أَلهمه اللّٰـه الرشد ، ولاحظ ما تقدَّم من بيانات الوحي الباهرة الزاهرة ، درر الرَّحمة ، وقطرة من بحر الحكمة ، البراهين السَّاطعة الواضحة ، والحُجَج البالغة ، وصغىٰ لها سمعه ، وذلَّل لها فهمه ، وأَشغل لها قلبه : أَنَّ ما ذُكر في النمط الثَّاني ـ المُدعَّىٰ لنفي الوسائط ـ طنطنة قصَّاصين ، وفخفخة قولٍ مِمَّن داخله الشَّكّ ، واستولىٰ عليه الرَّيب ، بل سقيفة معرفيَّة ؛ أَضرُّ على : الإيمان وأَهله ، والتَّوحيد ، والمعارف الحقَّة ، وأَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِن يزيد بن معاوية وجيشه (عليهم اللعنة) ؛ لاستلزامه محاذير عقائديَّة ومعرفيَّة خطيرة جِدّاً ، منها : 1ـ معرفة ـ والعياذ باللّٰـه تعالىٰ ـ الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة بالكُنْه. 2ـ إِحاطة المخلوق بالذَّات الإِلٰهيَّة. 3ـ صيرورة المخلوق المُحيط أَعظم من خالقه (تبارك وتعالىٰ). 4ـ تصغير الشَّأن الإِلٰهي. 5ـ تشبيه الباري (جلَّ وتقدَّس) بمخلوقاته. 6ـ الغلوّ في حقِّ المخلوق المُحيط. 7ـ التَّقصير في المعرفة الإِلٰهيَّة. 8ـ الشرك الخفي(3). وغيرها من بقيَّة المحاذير ، والمعارف والعقائد الفاسدة الباطلة بضرورة الوحي والعقل ، المشمول من يرتطم بها بإِطلاق بيان قوله تعالىٰ : [ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ] (4). والتَّحقيق(5) : أَنَّ هذا التَّقسيم الثنائي(6) بنفسه حقٌّ ونظامٌ وحيانيٌّ ، لكنَّه لا بذلك التَّفسير ؛ فإِنَّ الوسائط والوسائل والأَسباب الإِلٰهيَّة يحتاج إِليها المخلوق بالضَّرورة في الوِجْهَةِ الثانية أَيضاً ، لكنَّها لا تُلحظ ؛ لكونها محواً وفانيةً في حكاية الشأن الإِلٰهيّ ، وهو(7) على درجات. وإِلى هذا أَشارت بيانات الوحي ، منها : بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في حديث الحقيقة ، في جواب سؤال كميل بن زياد : « يا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ، ما الحقيقة ؟ فقال : ... الحقيقة كشف سبحات الجلال مِنْ غير إِشارةٍ ، قال : زدني بياناً ، قال : محو الموهوم ، وصحو المعلوم ، فقال : زدني بياناً ، قال : هتك الستر لغلبة السرّ ، فقال : زدني بياناً ، قال : نور يشرق مِنْ صبح الأَزل ؛ فيلوح على هياكل التَّوحيد آثاره ، فقال : زدني بياناً ، فقال : إِطفئ السِّراج فقد طلع الصبح »(8). فقوله صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « الحقيقة : كشف سبحات الجلال من غير إِشارةٍ » ، وقوله صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « محو الموهوم » ، وقوله صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « نور يشرق مِن صبح الأَزل ؛ فيلوح على هياكل التَّوحيد آثاره » إِشارة إِلى ما قدَّمناه من تفسير للنَّحو الثاني ، وهو : (محو الوسائط والأَسباب) ؛ وإِنَّه محوٌ وفناءٌ في الحكاية ؛ لا حقيقة. وبالجملة : تحصيل المعرفة وسائر الفيوضات الإِلٰهيَّة في (قوس النَّزول) ، بل وقبول الأَعمال وغيرها في (قوس الصُّعود) لا تكون إِلَّا بتوسُّط : الآيات والوسائط والوسائل والأَسباب الإِلٰهيَّة ، لكنَّها : تارة تُلحظ ، وأُخرىٰ لا تُلحظ ، ويُعبَّر عن الثانية بـ : « محو الوسائط والأَسباب »(9). نظيره : النَّظر إِلى المرآة ؛ فإِنَّه : تارة تُلحظ ويُلحظ المنعكس فيها ، وأُخرىٰ ـ أَي : حينما يشتدُّ صفاء المرآة وانعكاسها وتشتدُّ حكايتها ـ لا يُلحظ إِلَّا المنعكس فيها ، ولا ينشدُّ إِلَّا إِليه. والنَّحو الأَوَّل مشوب بحجاب الواسطة ؛ فبعد ما لم يحصل لها محو لم يَصحُ الرَّائي إِلى المرئي بيقظةٍ كاملةٍ . بخلاف النَّحو الثَّاني . وإِلى هذا النحو(10) أَشار بيان قوله (تعالىٰ ذكره) ، الحاكي لخبر بلقيس مع النَّبيّ سليمان عَلَيْهِ السَّلاَمُ : [ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ] (11). فإِنَّه مع وجود الواسطة واقعاً ـ وهي : (الصَّرح) ـ لكنَّه لتمرُّد ذاته ، وشفافيَّته وخلوصه في حكاية ذيه لم يُرِ نفسه ؛ ولم يكن حجاباً مانعاً ، ومن ثَمَّ لم تلحظه بلقيس ؛ ولم تلتفت أَو تنتبه إِليه أَو تشعر به ، وحسبته المحكي ؛ وهو : اللُّجَّة ؛ أَي : الماء الغزير ، ومِنْ ثَمَّ كشفت عن ساقيها لتتخطَّاه ، ولَـمَّا أُخبرت بالواقع ـ وأَنَّه صَرْحٌ مُـمَرَّدٌ ـ آمنت بالله (تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ عظمت آلاؤه) مِنْ دون نظر وتروِّي ومهلة وتدبُّر ؛ لكونها التقطت إِشارة معرفيَّة توحيديَّة إِلى معنىٰ : (تجلِّي وظهور الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة) في المخلوقات المُكرَّمة ؛ طبقات(12) حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة. وهذه القضيَّة الَّتي أنجبتها أَلفاظ بيانات الوحي ، وولَّدتها طاهر كلماته ، وأَظهرتها كالشَّمس الضَّاحية بياناته الواضحة الَّتي لا نهاية لعددها ولا نفاد لمددها ؛ فبزغت ماثلة لكلِّ عينٍ ، مالئة لكلِّ سمعٍ كبراها(13) عقليَّة وبديهيَّة قبل أَنْ تكون وحيانيَّة . نعم صغراها (14) وتشخيص مصاديقها (الطبقات الصَّاعدة لحقائق أَهل البيت : سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ والعترة الأَطهار صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) قضيَّة وحيانيَّة ، لا دخل للعقل بها ؛ لكونها مِن عوالم خارجة عن مُكْنَته وحريمه وَحَدِّه ، ومِنْ ثَمَّ مهما بَعُدَ في الغوص والغور لا ينال حقيقتها . فتأَمَّل جيِّداً. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) البقرة : 115. (2) البقرة : 148. (3) يَنْبَغِي الْاِلْتِفَات : أَنَّ هذه المحاذير لا تُخرج المرتطم بها عن دائرة الإِيمان والملَّة والدِّين ما دامت خفيَّة ، نعم تُخرجه عن المراتب العالية ، كمرتبة : (المخلصين). وهذا ما أَشار إِليه بيان قوله تعالىٰ التَّالي الذكر. (4) يوسف : 106. (5) هذا مبحث حسَّاس جِدّاً ، يدخل في عموم أَبواب المعرفة ، ومِنْ ثَمَّ التَّأنِّي والتَّدبُّر فيه مُفيد ونافع ومثمر جِدّاً ؛ يدفع كثير من الإِشكالات والشُّبهات ؛ منها : (شُبهة الوحدة الشَّخصيَّة) ؛ المرتطم بها كثير من العرفاء والصُّوفيَّة. (6) هذا التَّقسيم وإِنْ كان ظاهره ثنائي ، لكنَّ واقعه : انطواء كُلّ قسمٍ على أَنواع ومراتب ، منها : (الوِجْهَة في الأَسباب) ، و(الوِجْهَة في طيِّ الأَسباب). وقد خلط العرفاء والصُّوفيَّة وجعلوا : (وِجْهَة طيّ الأَسباب) من الوِجْهَةِ الَّتي تلي الرَّبّ ، والمناسب: أَنَّها من وِجْهَةِ تسلسل الوسائط والأَسباب. (7) مرجع الضمير : (المحو والفناء في الحكاية). (8) بحار الأَنوار ، 40 : 87 . عيون أَخبار الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، 1 : 233/ح1. تحف العقول : 430. عوالي اللآلي : 205/ح4. (9) هذا التَّقسيم عبارة أُخرىٰ عن الموضوعيَّة والطريقيَّة ـ أَي : الآليَّة ـ ، وهما على أَنماطٍ وضروبٍ مُتعدِّدة. (10) أَي : النحو الثَّاني. (11) النمل : 44. (12) هذه العبارة تعود : (للتَّجَلِّي والظُّهور) ؛ فإِنَّ الخالق (تقدَّس ذكره) يتجلَّىٰ ويظهر للمخلوقات في طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة. (13) أَي : اِسْتِحَالَة وصول المخلوق للذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة من دون واسطة ووسيلة إِلٰهيَّة. (14) أَي : إِنَّ طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة وتتبعها طبقاتها المُتوسطة والنَّازلة هي الواسطة والوسيلة الإِلٰهيَّة الفاردة لطُرِّ العوالم وجملة المخلوقات غير المتناهية